مهرجان النجمة المحمدية الولائي الثقافي الرابع عشر
الجلسة الثانية
4. محاضرة
القس معن بيطار - رئيس الكنيسة الإنجيلية المشيخية في محافظة حماة





مسيانية زينب
أريد أن أقف معكم أيها الأحباء بإحدى محطات تاريخ هذه المرأة
المميزة وهي محطة القدوة، والتي تشكل موقع القلب والمركز في حياة العظماء الذين
حملوا رسالة المقاومة للباطل في جهاد مرير ضد كل تبعاته، فكانت فلسفة القدوة لديهم
قوة ثورتهم وأساس تأثيرهم في أتباعهم ومنهاج علم لبناء الإنسان في معركتهم لإصلاح
الأمة.
هذه الإنسانة التي كرست حياتها للإصلاح شكلت نموذجا استثنائيا
في تاريخ الإنسانة المرأة والتي تصلح أن تكون مادة دراسية للمساهمة في بناء المرأة
الحرة بكل معنى الكلمة وبشكل حقيقي وواقعي في مواجهة الكلام الفارغ من الحقيقة عن
حرية المرأة، إذ وقتها نكون سعاة حقيقيين لإصلاح المجتمع والوطن والأمة. وإذا دعونا
المرأة وقتها لتكون عنصر كمال وتكميل لحركة الأمة وثقافتها ودورها ونهضتها لا نكون
دجالين أو مراوغين، فليس إصدار قوانين تعطي المرأة حقوقا وحرية من نوع ما هو
الإصلاح، بل بناء تلك المرأة الزينبية هو البداية السليمة التي تجعلنا نضع الحصان
أمام العربة وليس العكس.
إذن، لبناء هذا الإنسان رجلا كان أم امرأة يجب أن يوجد أمامه
النموذج والقدوة ويكون له أن يحاط بجو من الانفتاح والحوار لإيجاد إمكانية لديه
لقبول الآخر، فعندما يأتي إلى بيتي شخص من دين آخر أو فكر آخر فأستقبله وأحاوره
وأحترمه في الحضور كما في الغياب، فسيلاحظ أبنائي هذا الانفتاح وأبدأ من هذه النقطة
بتربيتهم على الانفتاح ثم قبول الآخر ثم الحوار، وبعدها نتوصل إلى حقائق في معرفة
الإنسان.
إن بناء الإنسان قضية جوهرية أساسية، وهو موضوع واسع يمكن
تأليف كتب عديدة حوله، لكنني أختار جانبا منه، فإذا أردت أن أبني إنسانا إصلاحيا
ثوريا مقاوما فيمكن إنجاز ذلك بدءا من البيت فصاعدا، حيث من الواجب أن يجد الطفل
إنسانا في محيطه يكون قدوة له، ووجود هذا القدوة ضرورة أساسية إلى جانب الوعظ
والتعليم، وإذا لم تكن هناك قدوة من هذا النوع لهذا الطفل ولهذا الشاب وهذه الفتاة
فلا قيمة للحديث عن بناء الإنسان.
إن هذه العظيمة عاشت في بيت من هذا النوع، فكان بيت القرآن في
قدوته بيتها، وقد وجدتها أنا أيضا في بيت الإنجيل فرأيت قدوة الإنجيل فيها، وتحسست
(مسيانيتها) فكانت ملتقى لما يراه كثيرون لا يلتقي، ملتقى القدوة القرآني بالإنجيلي
فكيف يكون ذلك؟
إنها معادلة لا يستطيع كثيرون حلها أو لا يريدون، لذلك أقول:
قرآنية السيدة زينب لا جدال فيها فأين نجد إنجيليتها؟ ماذا تعني مسيانية زينب؟
بهذه العجالة، وبقضية بهذا الحجم، لا يمكنني إلا أن أترك معكم
فقط بعضا من أسرارها للتأمل...
عندما نقول (مسيانية عيسى) فنعني أن هذا الشخص جسّد الفكرة
التي تقول أن هناك من يأتي من الله ممسوحا معينا لرسالة محددة ويمسح من السلطة
الروحية أو الدينية ليكون (المسيا) أو المسيح المنتظر. وعليه فعندما أقول (مسيانية
زينب) فهذا يعني أن هذه الإنسانة ممسوحة ومعينة لرسالة من نوع رسالة المسيا
المنتظر. وعندما نقول من نوع (رسالة المسيا) فهذا يعني أن رسالة المسيح يسوع وجدت
لها عند هذه السيدة مقرا وتجسدت قيم ومبادئ من هذه الرسالة فيها فأصبحت عبارة (ما
من المسيح في زينب) ومقابلها (مسيانية زينب) عبارة تستحق الدراسة والتأمل لسبر
سرها.
لست أجامل أو أساير في ذلك بل بالعكس فأنا بكل جدية أعلن ما
سبق وأتمنى أن ألاقي من يحاور في هذا حوارا حقيقيا. إن ما قرأته عن السيدة زينب
أعطاني أن أتحدث بسلطان عن هذه المعادلة، وقد وعظت وتكلمت عن ذلك في الكنيسة كما
وعدت في العام الماضي، وعندي من الحضور بينكم شهود على ذلك، وقد يحلو للبعض أن يرد
على هذا الانفتاح بالقول (نحن أيضا نتكلم عن السيدة مريم العذراء وربما بأكثر مما
تكلمت عن السيدة زينب) فأقول أنا هنا أصبحت بمجال أكبر من موضوع المجاملات
والانفتاح والانفتاح المقابل، وأكبر من موضوع القول أن هذا طبيعي أن يتحدث القرآن
عما في الإنجيل إذا جاء محملا لتراث الأديان التي سبقت. أنا هنا أدعو لتبادل
المعرفة المشتركة في حوار معمق يكتشف كل مشارك فيه، بانفتاح وإيمان ومحبة، أن
الإسلام في مكيته يشهد للمسيحية، والمسيحية في إنجيليتها تعيش في زينب وأمثالها.
هل يمكن أن نجعل هكذا قضايا مادة للوعظ في كنائسنا وجوامعنا؟
أنا فعلت ذلك، فهل من يرفض ذلك يحق له أن يتشدق بأنه يبني الإنسان ويعلن نهارا
وليلا أنه يقاوم الحرب الضروس التي يشنها علينا من يريد أن يستغلنا ويبقينا في حالة
تردٍّ وتخلف وخصام.
أعود وأقول: عندما أستعمل تعبير (مسيانية زينب) أعلن السلام
فيها، هذا السلام الذي فيها هو سر السلام عليها وأول صفة من صفات السيد المسيح
فيها، فكأني بها كانت تعيش في أعماقها سلاما مع ذاتها أساسه إيمان معين لم تهزه
قوة، ولم ترهبه سلطة، فكان هذا الإيمان أساسه السلام الذي يفوق كل العقل، حتى ليقول
القائل: (لقد نزلت هذه السيدة من السماء). لم تنزل السيدة زينب من السماء بل إن
سلام السماء كان فيها فبدت وكأنها نزلت من السماء. كل من يرغب بأن يمتلك هذا
الإيمان الذي جعلها لا تتزعزع، ومستعدا لرحلة الثورة والجهاد في سبيل التغيير
والإصلاح وبناء الإنسان، لا بد أن يكون لديه هذا السلام، هذا السلام الذي يقول عنه
يسوع المسيح: (سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، لأن
السلام الذي أعطيكم إياه، لو علقتم على خشبة أو قطعت رؤوسكم لن تتراجعوا)، أليس هذا
ما عاشته هذه السيدة العظيمة؟ إن يسوع المسيح يقول بأن سلام الله الذي يفوق كل عقل
يحفظ قلوبكم وأفكاركم في الحق الذي لا يحبه أبناء هذا الدهر، ألم يحفظ فكرها في
الحق وهي تواجه سلطان هذا العالم؟ نعم، لقد حفظت أفكار هذه المرأة من أن تزوغ نتيجة
التحدي أو تتراجع، من الذي حفظ لها كل هذا؟ إنها السماء... عقيدة وإيمان وسلام من
السماء... لقد كانت قدوة فلم تتراجع ولم تتقهقر وسلاحها كلمة الحق وحق الكلمة وهذا
أيضا وجه آخر لمسيانيتها.
إن استمرار السيدة زينب في دعمها وتشجيعها لأخيها الحسين
العظيم ليبقى صامدا في رحلة الإصلاح والثورة على الباطل وعدم التراجع مهما كان
الثمن، لهو أشبه بموقف العذراء في سيرها وراء ابنها دون أن يثنيه شيء عما عزم عليه
في السير على طريق الآلام ـ طريق الجلجثة ـ طريق الشهادة لنصرة الرسالة، كلاهما لم
تخفهما لا المؤامرة ولا الخيانة وهما تسيران وراء قدوتهما، هكذا نرى في الثبات
الزينبي ـ كالمريمي ـ مسيانية الانتصار المؤسس على سلام سماوي وإيمان إلهي عظيم،
فيسوع المسيح بسبب هذا الإيمان، وهذا السلام، دخل أورشليم وهو عالم بما ينتظره ولم
يتراجع.
هذه هي محطة القدوة، فأنا لا أؤمن بالسيد المسيح لأن هناك من قال لي بأنه (كلمة
الله المتجسدة)، يمكنك أن تقول ما تشاء، إن أساس إيماني به أنه كان يقول ويفعل إلى
الختام مهما كان الثمن... كان يعلم ويطبق إلى الكمال... كان القدوة بكل معنى الكلمة
وأبعادها. لقد دعا للثورة على الكتبة والفريسيين كما الحسين وزينب، وعاش هذه الثورة
حتى النهاية ولم يخش الصلب، وهكذا كان الحسين وزينب أيضا، هذه هي المحطة التي يجتمع
فيها العظماء وتختلط فيها أسماؤهم.
إن محطة القدوة هي التي نحتاجها اليوم، ونحن نحتفل بذكرى ميلاد
إنسانة لا أستطيع أن أزيد على مدح المادحين لها، لكنني أستطيع أن أزيد فكرا بالغوص
في مواقفها ومنهجيتها لأتمثلها كقدوة وأكتشف كيف استطاعت أن تكون كذلك فتقف في هذه
المحطة وتصعد من المكان الصحيح مكان القدوة إلى قطار الثورة دون النظر إلى الثمن
كما فعل المسيح الذي أعطيتها اسمه.
مسيانية زينب تعني أنها إنسانة تجسد فيها شخصا في قدوته وسلامه
وتضحيته، فكانت:
أولا: قدوة كما المسيح، مع آل بيتها وفي حياتها...
وثانيا: ابنة السلام، سلام السماء في قلوب البشر، والذي يفوق
فعله تصورات العقل ومقاييس الناس والذي كان في قلبها فلم يستطع شيء أن يقهرها...
وثالثا: دافعة للثمن الذي تفرضه تلك الثورة في الحق وذاك
النضال في وجه الباطل وهذا الإصلاح لعيش القيم وبناء الإنسان المقاوم مهما كان
الثمن.
في الختام أشكر الله على هذه الذكرى التي جمعنا فيها هذا الفكر
الواحد في مسيانية زينب لجهة بناء الإنسان وإصلاح الأمة وسلام العالم، وشكرا.