كلمة الدكتور عصام عباس في المهرجان الخطابي لسفارة جمهورية العراق بدمشق بذكرى عاشوراء يوم  الخميس 24كانون ثاني 2008م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد واله الطاهرين وصحبه المنتجبين وإخوته أنبياء الله أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 أعظم الله أجوركم وأجورنا بمصاب سيدنا ومولانا وإمامنا أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه...

لابد لي في البداية  أن أشيد بهذه الظاهرة الايجابية في البعثات الدبلوماسية العراقية في كافة أنحاء العالم والاحتفاء بذكرى عاشوراء النهضة الحسينية نهضة الإصلاح والتصحيح ، فمنذ أن انجلى الغمام عن بلدنا العزيز وسقط نظام الفراعنة الذي زرع الحقد  والفرقة والطائفية في عراق آل محمد خلال أربعة عقود من الزمن تقوم هذه البعثات واخص سفارة جمهورية العراق بدمشق مشكورة بإحياء هذه الذكرى على مدى أربعة أعوام خلت إيمانا منها بان هذه الذكرى هي ذكرى تصحيح وإصلاح سياسي واقتصادي وفكري واجتماعي على مستوى الأنظمة والطوائف والديانات وتصحيح لكل اعوجاج وليست هي إحياء لذكرى مر عليها أربعة عشر قرنا من الزمن ولكن هذه الذكرى تعيش معنا كل يوم ونعيش معها أينما كنا وحيث تواجدنا ..

وهذه الذكرى توجهنا جميعا إلى التمسك بمدرسة أهل البيت  والاستفادة من ثروتها الروحية والفكرية والفقهية والعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدءا بذات الإنسان وأسرته وبيئته ومجتمعه وصولا إلى كل مفاصل الدولة والإشارة للخطأ وتصحيحه بالفعل و القول ولا تأخذك في الله لومة لائم ، والإشادة بالصحيح والثناء عليه ومكافأته . وهذا ما ركزت عليه أهداف النهضة الحسينية 

** وقد  أراد الحسينالسير بسيرة جده رسول الله  وأبيه علي بن أبي طالبوذلك بترك الخلافات والصراعات الطائفية بين الناس  والتعامل بإنسانية مع الآخر وعدم الانجرار إلى السباب والشتم كما نراه على شاشات الفضائيات للأسف  بشكل يومي

لان الإمام علينهى عن السب والشتم تطبيقا لأمر الله تعالى ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾  .  وقد نهى أصحابه عن ذلك في كلمته المعروفة في واقعة صفين إني أكره لكم أن تكونوا سبابين،

أما فصول السب والتراشق واللعن فهي صفة مذمومة  ابتدعها الأمويون حين سبوا الإمام علي  وأهل البيت  على المنابر أكثر من ثمانين عام وأصبحت سنّة تتداولها الأجيال بالرغم من توقف السب في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ..

و ذكرى عاشوراء مؤسسة مستديمة وجامعة ثقافية روحية ورابطة اجتماعية تربط العبد بربه وتجمع الناس تحت سقف رحمة الله وسيادة قانونه ، انطلقت  من أجل نشر رسالة الباري وإتباع المبادئ التي خطها لمخلوقه (الإنسان) الذي جعله أشرف المخلوقات وجعله سيدا حرا كريما بعيدا عن الذلة والهوان لا تقيده قيود البشر ولا ترغمه قوانينهم الجائرة فجعله حرا كريما سيدا عزيزا

ولان قرار سيد الملحمة الإمام الحسين  كان مبنيا على طاعة الله تعالى والعبودية له وحده دون سواه   من خلال إصلاح الانحراف الذي حدث في مسلكية النظام السياسي في الدولة الإسلامية آنذاك وما تبعته من انحرافات نتيجة الاستمرارية على قبول الانحراف من قبل مجتمعاتنا ونتيجة ضعف الإرادة فسيطرت  إرادة الأنظمة الجائرة المتعاقبة وفرضت علينا إرادتها وقوانينها وأبعدتنا عن دستور الباري ورسالة السماء المنقذة لنا كبشر..

وأصبح الناس مطية الأنظمة السياسية تؤلّه  الطغاة والظلمة   وكثر في المجتمع وعاظ السلاطين كما حدث في العراق خلال أربعة عقود من الزمن .. فقد انساق الناس بقبول كل ما يقوله النظام الجائر وكل فعل من أفعاله خشية الإرهاب الذي كان يمارس في ذاك العهد المقبور ، فسلبت حقوق الناس وصودرت أموالهم وممتلكاتهم وحرياتهم ، فهَجر الناس بلادهم خشية البطش والظلم والطغيان ، وهجّر الناس من ديارهم بغير حق .. لكن الناس بقيت على التزامها بمبادئ ثورة الإمام الحسين لأنها نهضة لم تأتي لمحاربة يزيد بن معاوية فحسب بل جاءت لمحاربة كل يزيد أينما كان وفي أي وقت

فكانت  حركة الحسين  نموذجا في الديمقراطية أساسها الحق وحرية الرأي ، فلم يفرض رأيا وإنما طرح منهجا إصلاحيا سياسيا وكان محاورا بامتياز للأفراد والجماعات وكان نُصب عينيه تصحيح الانحراف الذي ابتليت به الأمة حينما خذلت رسول اللهبسكوتها على الباطل وانجرارها بقبول الظالم حاكما ومتوليا لأمرها لأجل هذا  اقتضى الأمر إلى نهضة إصلاحية  تصحيحية لتثبيت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبراز سيرة النبي  من جديد بعدما انقض عليها المارقون  من خلال  ابتزاز  الناس بأموالهم وأرزاقهم وممارسة العنف بشتى الوسائل وإفشاء الإرهاب الفكري والاقتصادي والإعلامي وتضليل المجتمع بتزييف الحقائق

فكان موقف الحسين  يرفض  موافقة الطغاة وعدم مفاوضتهم والاستهانة بتهديداتهم وإرهابهم  موقفا تربويا ومسلكيا للمجتمعات والأجيال والحكومات والقيادات والمرجعيات على مر العصور . 

أيها السادة :

الإمام الحسين  لم يخرج باسم حزب أو طائفة أو فئة من الناس،  وإنما خرج مع كل الشرائح الاجتماعية والديانات السماوية وكانت حركته الإصلاحية تنحى بدورها الرسالي لتغيير كل ما فرض من ظلم وجور وضيم على الناس كل الناس وليس على فئة من المجتمع أو دين من الأديان من قبل الطغاة والظلمة فكان حربا على الاعتداء والانحراف وكانت مسيرته مسيرة رسالية لطلب الحق واجتثاث الظلم مصطلحا وفعلا إلى غير رجعة ونصرة المظلومين والمستضعفين حقا  لا شعارا وهتافا فكانت التضحية سامية وكانت الإرادة قوية لا تقهرها العواصف ولا توهنها الجيوش ، وبقي الحسينرمز انتصار المناضلين من اجل بناء أممهم واعمار مجتمعاتهم ولم يكن حكرا لفئة أو دين بل كان رمزا  لكل الناس مسلمين وغير مسلمين تتبناه كل الحركات والقيادات والمرجعيات المناضلة من اجل تحرير شعوبها من القهر والظلم والحيف .

وبقي هكذا درسا تتناقل نهضته الشريفة الأجيال جيلا بعد جيل وتستلهم أفكاره كل الناس بغض النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية والفكرية والعرقية والقومية  .

وهنا ما يجب علينا اليوم إرسائه في بناء عراقنا الجديد عراق آل محمد فلا فرق بين عراقي وآخر هكذا هم آل البيت وأتباعهم

وهنا أتوقف مع أئمة المسلمين الذين ما انفكوا يوما عن السير بمسيرة أهل البيت  والالتزام بمنهجيتهم والتمسك بمدرستهم حيث يذكر الإمام النعمان (أبو حنيفة) بقوله الشهير – لولا السنتان لهلك النعمان – والمراد هنا ليس الهلاك الجسدي بل هلاك الفكر وهلاك العقيدة لذلك رفضته الأنظمة السياسية وقتها وشوهت صورته وبقي على التزامه وتحمل عذاب السجن إلى أن قتل مسموما في سجنه  وهو يردد :        

ها أنا مولى للفتى               انزل فيه هل أتى    

إلى متى اكتمه      أكتمه إلى متى

وذاك الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي يؤكد الالتزام بمنهجية أهل البيت والتمسك بمدرستهم وهو يقارع سلاطين القهر والجور من حكام بني أمية  وبني العباس وقتها   

برثائه الشهير للإمام  الحسين (ع) والتعبير عن ولائه لأهل البيت (ع)،

تأوّه  قلبي  والفؤاد كئيب ... وأرق عيني فالرقاد عجيب

فمن مبلغ عني الحسين رسالة ... وإن كرهتها أنفس وقلوب

ذبيح بلا جرم كأن قميصه ... صبيغ بماء الأرجوان خضيب

يصلى على المبعوث من آل هاشم ... ويغزى بنوه إن ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حب آل محمد ... فذلك ذنب لست عنه أتوب

هم شفعائي يوم حشري وموقفي ... إذا ما بدت للناظرين خطوب

وكان تأكيد الإمام الشافعي هنا  على مفهوم الشفاعة الذي أصّلته نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة،         وفي مقام آخر  يقول : 

إذا في مجلس ذكروا عليا ... وسبطيه وفاطمة الزكية

برئت إلى المهيمن من أناس ... يرون الرفضَ حبَّ الفاطمية

على آل الرسول صلاةُ ربي ... ولعنته لتلك الجاهلية

وهو القائل :

إذا نحن فضلنا  عليا فإننا ...  روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل

وله أيضا :

يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض

سَحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفض حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني  رافضي

هذا هو العراق ويجب أن يبقى على هذه المبادئ والتمسك بها  .. فلا فرق بين سني وشيعي وبين مسلم ومسيحي وصابئي وبين عربي وكردي وتركماني فالكل يجتمعوا تحت راية الحق راية الله اكبر التي خطتها رسالة السماء وبشر بها  خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد   ورفعها خفاقة أهل بيته الأطهار الذين تركوا الأمصار كلها وجعلوا العراق عاصمة لدولتهم السياسية وخلافتهم الراشدية  ومنطلقا لنهضتهم الإصلاحية التي جاءت من اجل إنقاذ الناس من  حالة الفقر والعوز والحرمان والانحراف والفساد وتزوير الحقائق التي تفشت في المجتمع نتيجة الإرهاب الاقتصادي الذي فُرض على الناس وإذلالهم وإتباعهم  إلى السلطة  والقبول بآرائها عنوة من خلال ترهيبهم وترغيبهم وجعل المجتمع مجتمعا أعمى لا يميز بين الناقة والجمل

والإرهاب السياسي وإتباع الناس لسياسة السلطة والقبول بها وبالتالي كم الأفواه وانشغال الناس في البحث عن الرزق وسبل العيش الصعبة ..

والإرهاب الثقافي بإرغام الكتاب والباحثين والعلماء والأدباء بعدم البحث والكتابة إلا من خلال سياسة السلطة ومديحها والثناء عليها وتزوير الحقائق وتحريف التاريخ وتشويه صورة أهل البيت..

والإرهاب الاجتماعي والديني وبالتالي تغيير مفاهيم العبادات لان النظام الأموي لا يهمه أمر الدين والعبادات فقد كان همه واهتمامه هو الحفاظ على السلطة والهيمنة وجعل خلافة الدولة الإسلامية  مملكة يتوارثها الأمويون حصرا ونشر حالة المجون وشرب الخمر والجواري ومجالس الطرب وإحداث سنة سب الإمام علي وأهل البيت على المنابر وفي خطب الجمعة ، فسياستهم هذه  اضطرت  الإمام الحسينإلى التحضير والإعداد لهذه النهضة منذ بداية الانحراف خلال أيام حكم معاوية

لأن الحسين  إمام الأمة وخليفة رسول الله  وسبطه  ووريثه حقا   ...

ولكن توريث الخلافة لفاسق وشارب الخمر كيزيد اضطره أن يحمل على كل هذه الموبقات بحملة إيمانية وسياسية وعسكرية لتغيير هذا الانحراف وإصلاح الاعوجاج الذي أصيبت به الأمة ولرسم الخط الصحيح والمستقيم للأمة عبر الأزمان والأجيال القادمة ..  وعلينا أن لا نقول إنها مرحلة مرت  وانتهت ومر عليها قرون خلت ،  فنهضة الحسيننهضة مستمرة لتصحيح كل اعوجاج وأي انحراف بأي وقت وبأي مكان ...

وفي الختام  :  لنجدد العهد للإمام الحسين  في بناء عراق آل محمد عراق العدل والأمر بالمعروف المعروف والنهي عن المنكر عراق ليس فيه طائفة متفوقة على أخرى ولا دين مضطهد ولا قوم متميزون عن سواهم فالكل سواسية في رحاب عراق آل محمد كما اجتمع أنصار الحسين  برأي واحد وهدف واحد هو نصرة الحق وإجهاض الباطل فمنهم زهير بن القين عثماني الهوى ومنهم وهب النصراني وأم وهب ومنهم القائد الأموي الحر بن يزيد الرياحي اجتمعوا غاية واحدة  تحت لواء سبط النبي الإمام الحسين  

فالسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى شريكة الحسين زينب  ... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

دمشق – السيدة زينب

الخميس : 24/1/2008