كلمة الإعلامية
الأستاذة مريم خير بك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيداتي ـ سادتي الأفاضل
في هذا المكان المشاد لأجل الثقافة والعلم، وهذه المناسبة الجامعة للقلوب القادمة من كل حدب وصوب، وفي هذا الزمن العربي الأشبه بالأمس، نجتمع وكلنا مسلمون لله في عاصمة الثقافة العربية، ساعون إلى محرابٍ تعطره ذكرى ولادة سيدةِ البيتِ المحمدي، زينب عليها السلام، التي حطّت بها الرحال في شامة الدنيا وقد أضناها المسير، فأبت إلا أن تقتدي بجدها رسولِ اللهِ (ص) وأمها فاطمة الزهراء (ع)، فتقف وقفة عزٍّ وثباتٍ لا تحيدُ، تنير بوقفتها درباً لكلِّ امرأةٍ عربية، ولكلِّ امرأة في دوحة الإنسانية ترفض العبودية بأي شكلٍ أُريدت لها، ومن أيِّ دربٍ أتتها.
أجل، ما أشبه اليوم بالأمس، وبلاد العرب محاطة بالطامعين، يقبضون على ديننا ليذروه رماداً في عيوننا، رماداً يغشى أبصارنا بمذاهب ما كانت في يومٍ من الأيام إلا فسحة للعقل تخرج بالدين من دائرة الجمود إلى دائرة حوار العقول، تعززِّه ولا تخنقه، تماماً كما خرج الأنبياء من بين جموع البشر في مراحل التاريخ، ثائرين على ضيق العقول وطمع النفوس، وتشتت الأرواح، يحاربون فيها الظلم والقهر والجهل والمطامع الشخصية، ومؤسسين لمجتمع إنساني، يتنامى بقوة العقل مسَربَلين بروح الإيمان لإغناء جذور شجرته بقوة الساق كي تتفرع أكثر وأكثر، وتصبح الساحة الأكبرَ للإيمان. . .
ما أشبه اليوم بالأمس، وقد وقفت سيدة هذا البيت المحمدي تنافح عن آلها ودينها فتسري الركبان تحكي أخبارها، حتَّى يأتي هذا الزمن فيعود المسلمون فرِقاً ينشدون الوحدةً، وحدةَ المسير والهدف كي لا تذروهُمُ ريح الفرقة ويصبحوا هباءً منثوراً في أودية الحياة ومجاهلها، ويقومَ على آثارهم من لا يؤمنون بدينٍ أو رسالة أو مبدأ ولا يحافظون على عهدٍ. . .
إننا وإن كنا في دوحةِ آل البيت عليهم السلام نحتفي بذكرى ميلاد سيدته وقد تنوعت مشاربنا فهذا يؤكد أن الإسلام يجمع ولا يفرق، تتسع دوائره ولا تضيق حتّى لتشملَ الكون، وتجمع الناس بكل انتماءاتهم حول الرموز العظيمة التي ما كانت عظمتها وقدسيتها إلا بما قدمته للإنسانية من مثالٍ بانٍ للمجتمع الإنساني بالعقل والحكمة والروح الإنسانية، مثالٍ رافض للتسلط والاستعباد وقتل الحرية في النفوس، وهو المؤمن بأن الناس قد ولدوا أحراراً وأنَّ الأديان لم تأت إلا ثورة على ظلم الإنسان وقهره، وعلى الجهل الذي حاربه الأنبياء كما حاربه الرسول العربي (ص) وآله وصحابته بالعلم، أجل، بالعلم الذي يوسِّع مدارك الإنسان فيجعل الدين واحة علم ومعرفة وأخلاقٍ كلما استزاد منها الإنسان سما بمعارفه ونُضْجِ عقلهِ، وعمق إيمانه، وكلما ابتعد عنها زاد بطشه وغروره واستعظامه لنفسه.
ولعلَّ هذا ما حاربه النبيُ وآله وصحابته وكلُّ من آمن الإيمان الحَقَّ بالله، وهذا ما رفضته حفيدة رسول الله(ص) حين حاصرتها النوائب فكانت تدحض القهر والظلم ببليغ الكلام، وفصيح القول، وعِزَّةِ الموقف، وقوة الصبرِ، مؤمنة بأنَّ للسياسة وجوهاً باطلة لا تُكشَفُ إلا ببليغ القول وصادِقِهِ وجريئِهِ.
إنني وأنا في هذا الموقف، وفي حضرة هذه المناسبة أسير في مجاهل التاريخ ودروبه، أقرأ سطوره متعظةً، معتبرةً، وقد ارتسمتِ الأحداث حاضرة في الذاكرة، فأستعرض ثقافة آل البيت، وأتوقف عند رمزٍ لهذه الثقافة، إمام من الأئمة العلماء، أرى فيه تاريخ العظماء من أُمتي فأشعر وكأني في ذاك الأمس، أو كأنَّ الأمس طغى على حاضري، وشخوصه أنصت إلى عظيم القولِ، فأرى أبا المذهب الجعفري، الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام وحوله جابر بن حيان وأبو حنيفة ومالك (رضي الله عنهم) وقد جمعهم حوار العقل والإيمان، أليس الإمامُ جعفرٌ الصادقُ إمام اليسر الذي تتمثل به مدينة رسول الله، وعنوان العلم الذي اتصف به الرسول وهو مدينة العلم وعليٌّ بابُها؟!! وأسمع، وأعرف أنَّ الإمام عالِمَ الكيمياء قد عاصر انقسام المسلمين إلى فرق سياسية تتوسََّل المذاهب الدينية لإثبات موقع، أو دعم حكم، أو تثبيت رأي، وبات الإسلام مسخراً لخدمة الأمور السياسية اليومية الآنية التي يجب أن تكون (أي هذه السياسية) على الوجه الأصح مسخرةً لخدمة الدين " الذي وُجدَ ليبني ويقضي على المندسين على الإسلام كي يفسدوا على المسلمين عقيدتهم. هذا الإمام يتصدى لكلِّ هذا واضعاً الأمور في نصابها، منبهاً إلى مبادئ الحق التي تضمن سيادة القانون، وارتفاعَ شأن القيم الإنسانية، واستقلالَ القضاء، وأمانةَ الولاة، ونزاهةَ الإدارة، واحترامَ العامة، وإلزام الخاصة بأن تكون قدوةَ الأمةِ".
كل هذا وضعه الإمام في دستور " أشار إلى دقة الحكم، ومكانة العدل، وأثر الحكام في رفع شأن الناس، ورعاية أمور الشعب، وتحقيق الشورى، وإرساء قيم الخير والصدق والتعاون، وحب العمل والإخلاص في الحياة ".
أفلا نحتاج إلى هذا الدستور في كل زمانٍ ومكانٍ لنرقى بالأمة والشعب والوطن عبر نشاطَين خطَّهما هذا الإمام الصادق بمسيرته:
1- نشاط علمي ترقى به الأمة.
2- ونشاطٍ ٍ تبليغيٍّ يتصدى من خلاله للقضايا الفقهية، ومسائلِ الشريعة.
وبهذا حدَّد للعلم دوره ومكانته، وللدين قيمته وأهميته، ليس هذا فقط بل عني بعلم الكلام الذي كان ميداناً للجدل العقائدي والمذهبي، فتسامت جوانب المجتمع القائمة على العلم والدين والحوار، وارتبطت بفقهٍ سياسيٍّ سما بقضايا الشورى فأعطى العصر الذي كان يمور بالكثير من الصراعات السياسية والدينية والمذهبية كثيراً من الثقافةِ الموقظةِ للروح، وكثيراً من التنوير للعقول، وبهذا أُرسيَتِ الأصالة الفكرية والثقافة العقائدية التي كانت هدفاً في بناء الفرد في زمن الصراعات الطاحنة وقد أدرك الإمام أنَّ الصراع السياسي الذي قسَّم الأمة، وشتَّت شملها اعتمد فيه المتسلطون على سياسة تفريغ الناس من العلم، وعزلهم عن الفكر، وإدخالهم في المجالات الضَّيقةِ والنظرات الجزئيةِ محدودةِ الآفاق حتّى يفقدَ الناس دورهم وفاعليتهم وتجعلهم يخسرون كلَّ شيء.
أليسَ الأمسُ أشبهَ باليوم؟!. .
ألسنا ونحن في هذه الذكرى مدعوين إلى استذكار ما فعله إمام من الأسرة المحمدية، الإمام الصادق عليه السلام، من كشفٍ للغشاوة عن العيونِ، وفتحٍ للطريق إلى القلوب المضعضعة، وتأكيدٍ بأنَّ قمة الفكر في الحياة هي القدرة على رؤية الحقائق العلمية بأبعادها المختلفة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، على صعيد الفرد والجماعة، وفي إطار الأسرة والمجتمع، وعلى الساحة الإنسانية والعوالم الأخرى المحيطة بالإنسان. .
ومدعوين أيضاً إلى التعمق بنظرته السياسية المنقسمة بين التوازنية والواقعية حيث كان يوازن بين مشروع وحدة الأمة الإسلامية التي تعاني من كثرة الانقسامات، وبين واقع مشروع وحدة الأمة الذي يتجاوز المذهبَ والفرق الكلامية، والاتجاهات الفقهية بما لا يسيء إلى التنوع، أجل نحن مدعوون إلى كلِّ هذا في زمن عربيٍ تُستباحُ فيه المقدسات، وتُهانُ الرموز، ويُشوّهُ التاريخ، وليس أنسب من هكذا وقت في هكذا مناسبةٍ، لسيدةٍ من آل البيت كي نستذكر ولادتها محتفين بها، ومن ولادة مجتمع عربي قويٍّ بمسلميه، أكانوا مسلمين بالإنجيل أم مسلمين بالقرآن، وولادة نساءٍ عربيات يتخذن قدوة لهنّ حفيدة رسول الله في هذا الزمن الذي يستبيح ديارهن وأنوثتهنَّ وأوطانهن، ويسلبهنَّ الكرامة والحرية مورثاً الحزن والقتل والدمار.
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أشكر الدكتور عصام عباس منظم هذا المهرجان الجامع لكلِّ الثقافات، لاسيما ودمشق محط رحال هذه السيدة عليها السلام هي عاصمة الثقافة العربية. كما أشكر كلَّ من ساهم في إقامته، وسعى إليه وهو مؤمن بأن سعيه ومسعاه عبادة طالما هي لخير المجتمع الإنساني.