كلمة طائفة الموحدين " الدروز "
ألقاها الأستاذ جميل أبو ترابي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين وعلى اله وصحبه المنتجبين، السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته وكل عام وانتم بخير
الإخوة الأخوات ، أيها الحفل الكريم
من دواعي سرورنا واعتزازنا أن يكون لإخوانكم وفد المسلمين الموحدين شرف المشاركة في هذا العيد المبارك ، وفي كل عيد نعود فيه مجددا للاحتفاء بذكرى مولد السيدة الجليلة زينب كريمة ال البيت عليهم السلام ، والتي رفعت بجهادها المشرف راية الإسلام عالية خفاقة ، ورسمت للمسلمين بعبقريتها الفذة نهجا لسلوك طريق الحق وبلوغ أسمى درجات المجد على امتداد التاريخ ،
مولد الطهر في الوجود بخمس وجمادى على الربيع زهور
أزهر الرمل فالصحارى عذارى زينب البيت والإباء الدهور
بنت من حج مولدا وحياة ورحى الوحي خبزه المأمور
أيها السادة ، إن الحديث في هذه المناسبة الكريمة عن ثقافة أهل البيت الكرام سلام الله عليهم ، وفي دمشق عاصمة الثقافة العربية ، يشبه السباحة لمن لا يجيدها في محيط متسع الأرجاء ، حتى من أجاد السباحة وكان من الأخصائيين فيها وأراد أن يسبح في البحر فكم عسى أن يسبح.
ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن ثقافة أهل البيت التي هي موضوع هذا المهرجان الولائي ، ليست ثقافة مدرسية كسبية ، وليست حشدا من المعارف والمعلومات ، وإنما هي ثقافة فيضية إلهامية سماوية من هدي نور الله ، بدليل ما جاء في الحديث النبوي الشريف " ليس العلم في الذهن حشدا من المعارف ، بل هو شعاع من نور الله " ومن كان ينظر بنور الله ، كيف يمكن أن يكون ميزانا لثقافته وعلمه ، فهم أولياء الله ، والولي على صلة دائمة بذلك الشعاع الرباني ، يأتيه العلم والمعرفة دون تكلف ، فهم يغرفون من بحر ، ونحن في هذ1ا العصر ننحت علومنا من جلمد الصخر ، فأهل بيت الله عليهم السلام لهم مكانة ومقام عند الله ورسوله ، لدرجة أنهم جزء من عبادة المسلمين ، ولهم مكانتهم الخاصة أيضا ومقامهم الرفيع عند المسلمين كافة وعند كل الأحرار والمؤمنين ، هذه المكانة تجعلهم أولى واقدر على توضيح سبل الوصول إلى معرفة الله من غيرهم ، فهم إن صح التعبير – الأخصائيون الأوائل في هذا الحقل المعرفي الإلهي .
لقد عبر القران
الكريم من قبل عن هذه المكانة الرفيعة خير تعبير " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا " أي يطهر قلوبكم بالإيمان والرضا والتسليم كما ورد في
بعض التفاسير . وفي هذا المقام يعقب الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي على هذه الآية
فيقول " فهم المطهرون اختصاصا من الله ، وعناية بهم لشرف محمد
وعناية
الله به "
إننا إذا جاز لنا أيها الإخوة أن نتحدث أصلا عن ثقافة أولياء الله ، فإنما نتحدث عنها ونشير إليها من خلال أحاديث أهل البيت أنفسهم وعلومهم الإلهامية ، وفقههم الرفيع ، لا من خلال أحاديثنا الشخصية القاصرة عن بلوغ هذا المستوى .
ولنبدأ بقمة الهرم
العرفاني ، برسول الله
،
حيث جاء في حديثه الشريف عن العترة الطاهرة قوله" تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن
تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض "
والعترة تعني في المصطلح الإسلامي " الأمان من الضلال"
فمن كان سبيلا للهدى ودليلا عليه بعد كتاب الله عز وجل لاشك إن ما هو عليه من العلم والمعرفة يفوق التصورات ، ويتسامى عن العلوم الأرضية المدرسية المحدودة .
هذا النبي العظيم الذي بشرت به الكتب السماوية ، وانتظرته الدنيا بأكملها ، يخاطبه رب العالمين في العديد من المواضع ، نذكر منها على سبيل المثال : قوله تعالى " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا"
انه هو الذي قال
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأي عرفان وأية ثقافة أعظم واجل من لقاء رسول رب
العالمين مع جبريل الوحي سلام الله عليه ، لتصبح حياة محمد
كلها
وعاء ً لكلام الله ، ولهذا جاء محمد خلاصة الخلاصة ، كأرقى صياغة إلهية يمكن أن
يكونها الإنسان ..
وهذا هو أمير
المؤمنين علي
قمة أخرى من قمم العرفان الشامخة يقول معبرا عن علوم أهل البيت العلوية وثقافتهم
الفيضية " نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع
الحكم " ومن هذا المستوى الرفيع يخاطب الناس قائلا " سلوني قبل أن تفقدوني فانا
بطرق السماء اعلم مني بطرق الأرض" . ومن هذا المنطلق العالي هذا المنطلق العالي هل
نجترئ عن التحدث عن ثقافة أولياء الله إلا من خلال ثقافتهم أنفسهم ، أو عن علومهم
إلا من خلال علومهم ، أو عن ينابيع حكمهم إلا من خلال ينابيعهم الفياضة ؟ وعلى كل
حال من ذاق كفا ً من الماء عرف طعم الماء كله على حد تعبير هرمس الحكيم عليه
السلام.
فالعرفان الحقيقي ليس إلا هذا الاختصاص في معرفة السبل والطرق التي تجعل الإنسان يتجاوز العقبة الأرضية ليتجاوز الدنيا وينطلق باتجاه السماء.
أيتها الأخوات أيها الإخوة
إن خير ما نتحدث عن علوم هذا الطود الشامخ هو أن نتحدث عنه من خلال أبعاد ثلاثة :
البعد الأول : حديثه عن الخالق تعالى وتقدس حيث يقول " أول الدين بالله معرفته ، وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه."
البعد الثاني : حديثه عن الخالق ، والمقصود به الدنيا والتحرر منها ، فهو يقول : " إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وافلت من حبائلك ..." ويقول فيها أيضا :" والناس فيها رجلان ، رجل باع نفسه فاوبقها ، ورجل ابتاع نفسه فاعتقها " .
البعد الثالث
: فهو حديثه عن الإنسان نفسه وقد عبر عن ذلك خير تعبير في خطبته التي نجتزئ
منها قوله" أما بعد ، فان الله سبحانه وتعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم
آمنا من معصيتهم ... إلى أن يقول فيها " فالمتقون فيها هم أهل الفضائل ، منطقهم
الصواب ، وملبسهم الاقتصاد، ومشيتهم التواضع ... " ويكفي دلالة على شموخ هذه القمة
ما قاله عنه الحسن البصري " أعطى القران عزائمه فيما عليه وله ، فاحل حلاله ، وحرم
حرامه ، حتى أورده رياضا مونقة ، وحدائق مغدقة ، ذلك علي بن أبي طالب " . وكيف لا
يكون ذلك وهو باب مدينة العلم التي قال عنها النبي
."
أنا مدينة العلم وعلي بابها "
وإذا تحدثنا عن كتابة نهج البلاغة نلوذ بالصمت . وحين نتحدث عن باب مدينة العلم ، يصبح لزاما علينا أن نتحدث أيضا عن فاطمة الزهراء ومن أدراك ما فاطمة؟!
لقد كانت الزهراء من أهل بيت اتقوا الله وعلمهم الله ، كما صرح بذلك الذكر الحكيم ، وقد فطمها الله بالعلم فسميت فاطمة ، وانقطعت عن النظير فسميت بالبتول.
وفي خطبتها التي ألقتها على جماهير المسلمين في باحة المسجد ارتجّت لها العقول المفكرة في ذلك العصر من عظمة الفلسفة التي تضمنتها في عصر كان يرى المرأة لا تقدر أن ترتفع إلى مستوى الرجل أو مستوى الإنسان لقد تناولت في خطبتها معظم جوانب التشريع الإسلامي فذكرت لكل جانب حكمته وفلسفته ، فالصلاة مثلا في فقهها العميق الذي كانت تتميز به : هي تنزيه عن الكبر والزكاة هي تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصوم تثبيت للإخلاص ، والحج تشييد للدين ، فهو في رؤيتها لأعماق الحقيقة يمثل ضرورة دوران نشاط الفرد حول نقطة مركزية واحدة هي " رضا الله تعالى".
وتقول في العدل انه تنسيق للقلوب ، والمعنى في ذلك أن التشريع العادل هو الجدير بالبقاء لأنه يعامل الناس جميعا معاملة واحدة ، لا يميز فيها بين غني وفقير ، وشريف ووضيع ، وقوي وضعيف، وهذا ادعى للتالف بين القلوب وتنسيقها .
وماذا نقول أيضا في
ثقافة بقية آل البيت
إن
خير ما يعبر عنها ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ليست حشدا من المعارف بل هي
نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فهم معادن العلم وينابيع الحكم كما قال أمير
المؤمنين كرم الله وجهه ، ولكن يمكن لنا أن نستدل بشذرات بسيطة من بعض النصوص التي
وردت على ألسنتهم ، فها هو الحسين عليه السلام نجد في دعائه يوم عرفة كل عناصر
العرفان ونجد في النكران للذات والذوبان في حب الله حيث يقول " الهي ترددي بين
الآثار يوجب بعد المزار ، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ، كيف يسدل عليك بما هو
في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، ومتى
غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ،
عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا ...."
وختامها مسك كما يقال ، ماذا نقول في ثقافة العقيلة زينب عليها السلام إن كل ما يقال عنها في هذا المجال جمع في كلمة واحدة ويكفي أن نقول ما قيل فيها : إن المسلمين كانوا يرجعون إليها في المسائل الشرعية ، ونظرا لسعة معارفها كان الإمام زين العابدين عليه السلام يروي عنها ، وكان لها أيام أبيها في الكوفة مجلس خاص تزدحم فيه السيدات لسماع محاضراتها في تفسير القران الكريم الذي حفظته عن ظهر قلب في مطلع صباها ، وحفظت معه أحاديث جدها عليه الصلاة والسلام .
أيها السادة - لم يكن في عصر آل البيت الكرام معاهد عليا وجامعات ، كما هو الحال عندنا اليوم ، وإنما معاهدهم وجامعاتهم هي علومهم الفيضية اللدنية الدالة على علو منازلهم ورفيع درجاتهم وعمق ثقافاتهم ، وقد أجاد التعبير عن ذلك كله علامة العصر فضيلة الدكتور اسعد علي حيث يقول:
بألف ألف كتاب لا يحاط بها لزينب عالم يا رب نشتاق
إيجاز معجزة إعجاز زينبنا منابع الماء في الصحراء أرزاق
أيها الإخوة والأخوات : إن أية محاولة للإحاطة بالمناقب العظيمة لآل البيت أو بثقافتهم العلوية ، في كلمة قصيرة كهذه لن تفي بالغرض المطلوب ، وحسبنا من ذلك أن نكسب شرف المحاولة ، ولابد لي في نهاية المطاف من ذكر بعض أبيات من قصيدة قالها جار مجاور لي ، ينظم شعره على السليقة والفطرة ، أبت مروءته إلا أن يشارك إخوانه في هذه المناسبة العزيزة عن بعد ، وكم أتمنى أن تسمح له ظروفه بالحضور شخصيا ، حيث يقول :
يا بنت بنت رسول الله يا علما راموا لك الذل لولا الله حاميك
وقع المصاب فلا يثنيك عن هدف كالطود كنت وما كانوا ليثنوك
من كربلاء ومن أطهار قبلتنا نعم العقيلة والأبرار أهلوك
نعم المقام لست الطهر زينبنا في واحة الله في الفيحاء واروك
نعم الريادة يا علامة برزت يزكو المقام الذي فيه أحلوك
والسلام عليكم وكل عام وانتم بخير