فضيلة الباحث المفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق المؤنس

 

الحمد لله وبركاته، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى، وعلى آله النجباء، وأصحابه الشرفاء.

أيها الأعزاء.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في حضرة هذا اللقاء الكريم الذي تقدم ألقه وإشراقه، ثقافة أهل البيت في عاصمة الثقافة العربية دمشق، نذكر أهل البيت ونقول: هذا الشرف وهذه النسبة منبعها من أين؟

إنها من سيدنا رسول الله 9، لذا الشرف يأتي من المشرف الذي جعله الله عز وجلﮋ ﮐ  ﮑ  ﮒ         ﮓ  ﮔ       ﮊ[1].

فالمنهج لا يرتبط بالشخص، ولكن يرتبط بالنص، الفردية في الدين ليست هي الدين، لأن الدين جاء ليربط الأشخاص، ويربط الأمم، ويربط الناس برباط الوحدة، القائم على الرحمة والتعاون والحب والتآخي في الله رب العالمين، من خلال منهج الله سبحانه وتعالى ﮋ ﮮ  ﮯ  ﮰ  ﮱ   ﯓ  ﯔ  ﯕ   ﯖ  ﮊ[2].

نحن عندنا نذكر بالتكريم والتشريف والإجلال والتبجيل، آل البيت جميعاً 4، أذكر فيهم هذه المعاني التي انبثق من رحمةً للعالمين، والتي اتجه من ذلك العشق الذي أحسّه في ضميري لهم، وهذا الأُنس الذي أستمده من مقاربتهم، وهذا الشرف الذي أتظلل بهم وأنا في ظلهم، كل ذلك نحسّه عندما نكون صادقين في إيماننا وتوحيدنا بالله الواحد الأحد الصمد، وفي إيماننا وانتسابنا إلى القدوة والأسوة العظمى سيدنا رسول الله 9.

والله عز وجل قد صنع الإنسان، وجعله في أحسن تقويم، ولكن ترك للإنسان بمفرداته ومجموعاته أن يصنع للحياة حضارتها، والحضارة لا تصنع إلا بأمرين: بالقلب والعقل. القلب الذي فيه الحب للآخر، والعقل الذي امتلأ فقهاً أي امتلأ علماً، والفقه بالمفهوم العام الذي هو الرياضيات، وهو كونيات وهو علوم وهو قواعد وأسس تقوم عليها هذه الحياة، أما الارتباط بالمصالح الفردية والتدين لا للدين، فهنا المشكلة، المشكلة في التدين وليس في الدين.

أيها الأعزاء.. والقضية كما علمتم وتعرفون، وأضيف ليست قضية طوائف، وليست قضية مذاهب، ولكن قضية نص وشخص، فكلّما اقترب العقل من النص، كلّما اقترب من الحقيقة، وكلّما اقترب الشخص من الشخص، وابتعد عن النص اقترب من الاختلاف، ولا أقول اقترب من الخلاف.

إذاً.. نحن في قربنا من النص، وقربنا من النص يحتاج إلى مراكب، مراكب هذا القرب هو الوعي هو الاستعداد، الأهلية العقل العلم، والإفادة من الآخر، والمراكب العظمى لهذا التثقيف تكون في التلاقي والتوحد.

رسالة سيدنا رسول الله 9، هي في الواقع أيضاً ثقافة أهل البيت، وثقافة الصحابة الأبرار جميعاً أيضاً بأنها رسالة ﮋ ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮ   ﭯﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﮊ[3].

الرحمة لا تعني أن تكون منسوبة إلى مصدرها، الرحمة تكون منسوبة إلى مصدرها، مصدر الرحمة الإيمان ﮋ ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ   ﭛ  ﭜ  ﮊ[4].

ولكن ثمار هذا التوضيح لهذه الرحمة هي الإطلاق، كإطلاق الإشراق في الشمس في مشرقها وفي مغربها تشرق على الجميع، والله هذا ما شاء عندما يدخل الإنسان في الإسلام لا يعني أن الله عز وجل ازداد عفّة، وعندما يخرج الإنسان عن الإسلام وينتسب إلى غيره لا يعني أنّ هناك نقص، القضية ليست بهذه بالأرقام ولكنها في الخلقيات، الخلقيات التي نعيشها عندما نقضم أنفسنا ونذوب في المجموع، فما تفسرون قوله تعالى سبحانه ﮋ ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﮊ[5].. هل هو رب المؤمنين؟ أو الحمد لله رب المسلمين؟

وهل قال: ﮋ ﭛ  ﭜ  ﮊ[6]، الرحمن والرحيم وكلاهما اسمان من المبالغة الرحمن فعال والرحيم على وزن فعيل، ويكفي أن نقول الرحمن، لماذا الرحيم؟

إذاً، الرحمن في الواقع كلمة تسري وتتغلغل وتشمل في تنسيق وانسجام كل جزئية وذرة في الحياة، تكفي، ولكنه قال إضافة إليه الرحيم لماذا؟ لأن هناك أناس بحاجة إلى إسعاف، هذا الإسعاف من العطاء والعون الإلهي يكفي في كلمة الرحيم.

فاتجهوا أيها الأعزاء إلى هذه المسائل، ولنتجه جميعاً إلى أن نرتفع عن هذه الفردية في العصمة، لنعيش العصمة الحقيقية في المجموعة، والله سبحانه وتعالى بعث الأنبياء أمثلة عظيمة لهداية البشرية، وقال في رسالتهم الواحدة، والدين الواحد ﮋ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ   ﭾ   ﭿ    ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃ   ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ  ﮊﮋ  ﮌ  ﮍ   ﮎ   ﮏ  ﮐ  ﮑ ﮊ[7].

وجعل خاتمهم محمداً رسول الله 9 وقال: ﮋ ﭿ  ﮀ     ﮁ   ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ  ﮉ   ﮊﮊ[8]، والهيمنة هنا هيمنة التكامل، وليست هيمنة الاستعباد، هيمنة الكفاية، هيمنة العناية، هيمنة العالمية، رحمة للعالمين، رب العالمين، هذه الهيمنة في هذا هي التي أعطتنا البوابة التي يمكن أن ندخل من خلالها صدق إيماننا بالله رب العالمين، والله عز وجل لم يرد أن نكون مسلمين، بمعنى أنني أحب فئة أو طائفة أو مذهباً، أنت مسلم ما معنى كلمة مسلم؟ مسلم أي أسلمت عقلك وروحك لله وكنت سلاماً وأمناً ورحمة للناس أجمعين، تشرق برحمتك وتمدّ الخير والعطاء إذا ما عرفت ومن لم تعرف، حتى الحيوان له حظٌ من هذه الرحمة.

تصوّرا أيها الأحباء أنّ الحيوان يدخل مؤمناً النار، فما بالك بالإنسان، أياً كانت عقيدة هذا الإنسان، وأياً كان مذهبه، ألا تعرفون الحديث الذي يقول: Sدخلت امرأة النار في هرة حبستهاR؟

ألا تعرفون الحديث، وأنا لا أذكره من الأحاديث الصحيحة، وهي موثقة Sبغية من بغايا بني إسرائيل، أهلكها العطش، نزلت في بئر فشربت حتى أعادت روحها، فرأت كلبة كادت أن يقتلها العطش، فقال: أصاب هذا الكلب ما أصابني، فرجعت إلى البئر وأخذت الماء وسقت الكلب حتى أعادت إليه الروح والحياة، غفر الله تعالى لهاR.

فما بالنا بالإنسان؟ بأخي الإنسان، أياً كان هذا الإنسان، وظيفة الرسول وظيفة الإشراف، وظيفة أهل البيت هي تمثيل مصداقية هذا الإشراف في هذه الحقائق، لذلك كان الرسول معصوماً لأنّ كل ما يقوله، وكل ما يفعل وكل ما يكون في أحواله وأقواله وأخلاقه ﮋ ﭛ  ﭜ   ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ    ﭣ   ﭤ  ﮊ[9].

ولكن أريد أن أقول هنا، وهنا المصلحة والتوظيف في هذا الكلام: هل العصمة لغير رسول الله؟ العصمة لرسول الله 9، ويجب أن تكون العصمة لرسول الله 9، أما ما عدا رسول الله 9 فالعصمة لن تكون إلا للمجموعة، العصمة مع الجماعة وليست مع الفرد، ما الدليل؟ الدليل في ذلك قول الله عز وجل: ﮋ ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ ﮊ[10]، أي كونوا معصومين إذا اجتمعتم، أما إذا تفرقتم طوائف ومذاهب وأفكار واتجاهات فأنتم لن تكونوا معصومين، أنتم تكونون معصومين عندما تكونون جميعاً تحت مصداقية قوله 9: Sيد الله مع الجماعةR، معصومين، ﮋ ﮮ  ﮯ  ﮰ  ﮱ   ﯓ  ﯔ  ﯕ   ﯖ  ﮊ[11].. أيضاً ﮋ ﯖ  ﮊ[12]، فالوحدة في هذه الروح الجماعية هي ما ننتظرها أيها الأحباب في هذا الزمن، الناس اليوم بحاجة إلى أمرين: بحاجة إلى غيرية وبحاجة إلى أخلاقية، والغيرية تقوم عندما أفكر فيك قبل أن أفكر بنفسي، منطلق التفكير فيك.. Sلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيهR.

منطلق التفكير بأخلاقية معك عندما أعرف أنني كلما خدمتك، كلما أعطيتك، كلما أحببتك، كلما نظرت إلى حسناتك، وأغمضت الطرف عن سيئاتك، حتى لا يبقى له أثر سيئات، ولكن المؤمن هو الذي ينظر بمنظار الحب، بمنظار الخلق، والرسول 9 لم يكن رسولاً ذا رسالة علمية فلسفية فكرية جافة، وإنما كان ﮋ ﮛ  ﮜ     ﮝ  ﮞ  ﮊ[13]، يحرم نفسه ليعطي الآخرين.

إذاً.. نتنافس في الحب، نتنافس في الإيمان، نتنافس في تحقيق ثقافة آل البيت جميعهم 4 عندما نكون في هذه الغيرية من الأدب، من التواضع، عندما نكون معتصمين ونبتعد عن تلك اللغات الأخرى التي استهلكت إعلامنا، واستهلكت أيضاً سياساتنا، واستهلكت خطبنا الدينية وغير الدينية، لغة الاستعداء، يعني أنّ الآخر عدو لنا.

لنتجّه من لغة الاستعداء إلى لغة الاستعداد، شئنا أم أبينا الشيطان يعمل، أعداؤنا أعداء لنا، يريدون أن يغتالوا كل شيء فوقنا وتحتنا شئنا أم أبينا، مهما هاجمنا أمريكا ومهما هاجمنا إسرائيل ومهما هاجمنا من معهم من المخربين والمخالفين والشاذين والمنحرفين سيبقون كذلك.

هذه سنّة الكون، ربنا إن شاء أن يكون الناس جميعاً مؤمنين متصادقين كانوا كذلك، ولكن ماذا فعلنا نحن؟ كيف كان استعدادنا، أنا لا ألوم المستبد إذا تعنّد فسبيله أن يستبد، وشئننا أن نستعد، تلك الثقافة أيها الأعزاء في آل بيت (رضوان الله تعالى عليهم جميعاً) وفي الصحابة الأجلاء الذين كوّنوا هذه الأفكار والقيم في معاني ﮋ ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﮊ[14]، هي أمة الحب.

دعونا من أمة القتال، أمة القتال هي أمة الاستعداد، أمة القتال أولاً أن تكون مع الآخر، أما نحن فيما بيننا فهل نحن مسلمين متفقون؟

نردد في الخطب والمنابر المحبة والسلام.. Sلن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابواR، Sألا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم افشوا السلام بينكمR.

أتكلم مع الإنسان من الحب البليغ، ولكن عندما تحتاجني استدبرك وأتنكر لك، ما معنى هذا الكلام الديني والخطابي والبلاغي إذا كنت على أرض الواقع مختلف معك، إيماني الحقيقي يقتضي أن أحبك، إيماني الحقيقي يقتضي عرفتك أم لم أعرفك، إيماني الحقيقي يقتضي أن أخدمك مسلماً كنت أم مسيحياً أم غير متدين أم غير إنسان من هذه الأوصاف الدينية، وإن كنت غير مسلم غير مؤمن، الله عز وجل رب العالمين، والرسول محمد 9 رحمة للعالمين.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه تلك الإشراقات، وذلك الألق، هو الذي صنع لنا هذه الأقمار والشموس التي لا تزال إلى الآن عِبر، عبر ننظر إليها ونتمنى أن تكون معنا.

عبر يبوح بها الزمان وينطق
لا يرحل التاريخ عن ساحاتها

 

 

ويبوح منها المشرق المتأنب
إلا دون ما يزكي النفوس ويغضب

 

أسأل الله عز وجل الأمن والأمان لبلادنا جميعاً وللعراق وللصومال ولكل الأمة، ويجعل الأمان في وحدة هذه الأمة، ويبارك فينا جميعاً، ويبارك في شامنا وفي عروبتنا وفي إسلامنا، وندعو الله عز وجل من قلبي أن يبارك في حياة السيد الرئيس بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية الذي هو في هذا الزمن عنوان هذه العزة، وعنوان هذا الجمع، وهذا التلاقي، وهذه الكرامة، فأهل البيت جميعاً هم أهل العزة المشكلة بين أهل البيت والآخرين أن أهل البيت لا يرضون بالظلم، لا يرضون بالظلم، وليست المشكلة بين أهل البيت والآخرين مشكلة مبادئ أبداً، ولكنها مشكلة رحمة مشكلة خلق، هيهات هيهات منا الذلة.

والسلام عليكم ورحمة الله.

 


[1] الأنبياء: 107.

[2] المؤمنين: 52.

[3] يونس: 99.

[4] الفاتحة: 2-3.

[5] الفاتحة: 2.

[6] الرحمن: 3.

[7] الشورى: 13.

[8] المائدة: 48.

[9] النجم: 3-4.

[10] آل عمران: 103.

[11] المؤمنون: 52.

[12] المؤمنون: 52.

[13] القلم: 4.

[14] آل عمران: 110.