ذكر أخي المتكلم قبل قليل ذاك الراهب الذي التقى القافلة التي حملت رأس الحسين، ذاك الرأس الذي حمل معرفة الحقيقة المتعلقة بضلال السلطان وأعلن أن هذا الراهب رأى في وجه ذاك الرأس المقطوع نوراً يشع منه مما لا يفسره العلم ولا المنطق ولا مفردات العقول وإنه أعلن إسلامه بسبب ذلك.
أنا أحب هذه الرمزية وإن أردتم أستطيع أن أعلن أيضا بذات الرمزية
أنني مسلم ولكنني سأقول أكثر من ذلك سواء أعلنت أنا إسلامي أو أي كان من المؤمنين فإننا نعلن حقيقة ما نحن عليه وفيه.
فكل مؤمن حقيقي بالله عز وجل وبحقيقة الحياة بعد الموت هو يعيش على هذا الأساس. هو مسلم أسلم قلبه لله وفكره للبر والصلاح والحق. فالمسيحي الحقيقي هو مسلم حقيقي.
وإلا لا يمكن أن يعيش المسيح في قلبه فيطهر هذا القلب وينقيه ليكون صاحبه من أبناء الملكوت إن لم يكن هذا القلب مسلماً بكليته لله.
فإن كان إسلام هذا الراهب على هذا الأساس الروحي والفكري العميق والحقيقي فإنه خيراً فعل في إعلانه إسلامه أمام إخوته في الايمان ليكون واحداً معهم في الرجاء والمحبة المسيحية.
أيها الإخوة والأخوات بدأت الحديث رغم أنني لم أكن أنوي ذلك.
كنت أنوي أن أقف أمامكم اليوم لأدعوكم لحضور اليوم الثالث من هذا المهرجان في كنيسة محردة الإنجيلية المشيخية وأذكر بعض أسباب هذه الدعوة فقط.
ولكن المتحدثين قبلي أثاروا فيّ شجوناً دفعتني لأفصل قليلاً بأسباب تلك الدعوة.
علماً أن الدكتور عصام سلفاً كان يقول لي :"لابد من أن تقول
كلمة ما، فأنت أصبحت من الأسرة وأي شيء تقوله بالنسبة لنا هو مشاركة محببة
ومطلوبة". فماذا أقول؟ دعوني أبدأ بالحديث عن الأسباب كما ذكرت:
السبب الأول الذي جعلني أدعوكم للاحتفال غداً في الكنيسة
هو أنني أصبحت أعتقد أن انضمامي إلى هذه الأسرة ليس محض صدفة بل فيه إرادة خفية.
فعندما التقيت الدكتور عصام أول مرة في مهرجان الاحتفال بعيد الإمامة في السلمية ومازحته بقولي، بعد أن عرفت نوع نشاطه الفكري والاجتماعي والروحي من خلال أسرة النجمة المحمدية، هيا ادعونا لمهرجانكم.
قال: "لك الدعوة من اللحظة".
قلت في نفسي: "كلام بكلام"، إذ يصادفنا الكثير من ذلك دائماً.
وما إن مرت الأيام واقترب موعد المهرجان فإذا بشخص يتصل بي ليدعوني للمشاركة في ذكرى ميلاد السيدة زينب
وأخذ الأمر معي بعض اللحظات لأتذكر من هو هذا الشخص وافقت على الدعوة مباشرة
حتى قبل أن أعرف ما هو الموضوع وما هي القضية بكل أبعادها التي وراء هذه الاحتفالات لأنني مع اللقاء بكل أشكاله.
عندما أردت وإياه أن نحدد موضوع كلامي سارت الأمور بشكل غريب عن المألوف
فكلما كنت أطرح فكرة كان يقول لي: "كنت أفكر بذلك".
وما إن يقول لي أمراً حتى أشعر أن سراً يجمعني بفكر هذا الشخص.
حددنا أول حديث لي منذ ثلاث سنوات ليكون عن السيدة مريم والسيدة زينب والتشابه بينهما في حمل الرسالة.
وفي السنة الثانية أيضاً عندما اخترنا عنوان محاضرتي "مسيانية زينب" حصل ذلك أيضاً بصورة فيها شيء غير محسوس لجهة الاتفاق السريع على العنوان رغم غرابته لعقل إنسان مسلم للوهلة الأولى إلا أنه أبدى تفهماً سريعاً لذلك.
وفي السنة الثالثة التي نحن بصددها الآن 2006 تحدثنا عن إقامة يوم للاحتفال بذكرى ميلاد السيدة زينب في حماه بالمركز الثقافي لنشارك إخوتنا السنة بشكل أوسع
وأيضا سارت الأمور بطريقة صدقوني أن فيها تدخلاً أيضا غير منظور خارجاً عن فكر الدكتور عصام وعن فكري لدرجة وصلت الأمور أن يتم ذلك في كنيسة محردة الإنجيلية المشيخية.
وهذا يحتاج للكثير الكثير من العمل والجهود لتهيئة الأجواء والنفوس والناس والمجتمع المسيحي في محردة والمحيط الإسلامي في المنطقة ليتقبل الجميع حتى المسؤلين الفكرة لأنها ليست فكرة عادية وبسيطة بل غريبة وغير مألوفة.
واسمحوا لي أن أكون جريئاً وأقول لكم غير معقولة للبعض. يطول الحديث لو أردت أن أحلل الأمور وأنظر في تفاصيلها ومداخلها ومخارجها وآثارها والمخاطر المحيطة بها ومتاهات خطوة كهذه أن تحتفل كنيسة بذكرى ميلاد سيدة من سيدات الدين الإسلامي.
هذا الحدث الأول من نوعه في تاريخ المسيحية والإسلام في العالم والذي وصلنا إليه أستطيع أن أقول بكل موضوعية ومنطقية ودون عواطف أو شكليات وبكلمة إيمانية واحدة وبساطة لا تخلو من العمق والوعي أن وراء كل ذلك إرادة إلهية.
تلك التي قلت عنها سابقاً أنها إرادة خفية كان لها علاقة بتهيئة كثير من الأمور.
السبب الثاني الذي دفعني لدعوتكم للكنيسة
يمكن أن أضعه تحت عنوان التقدير والاحترام وإعطاء الحق لصاحبة هذه الذكرى في أن يعرفها المسيحيون كما المسلمون وغير المسلمين لأنها نموذج لمقاومة جهاد في طريق الحق والحقيقة مدفوع الثمن سلفاً...
ونموذج لأمور كثيرة أخرى ليس الآن مجال للحديث عنها المهم
أنني من الذين يحققون مقولة إمامنا أنت المثل إمامنا نحن الأمل..
دعوني أذكر لكم من أين أتيت بهذه المقولة ولماذا؟
عندما التقينا في السلمية بعيد الإمامة وأنشدت جوقة شباب وشابات للإمام قالوا :" إمامنا أنت المثل إمامنا أنت الأمل".
وفي كلمتي عندها علقت على ذلك وقلت لهم: ليتكم قلتم إمامنا أنت المثل إمامنا نحن الأمل.
أيها الأحباء ما قيمة ذلك؟ لهذه المقولة قيمة كبيرة لا بل أهمية قصوى لأنها تمنع المتاجرين والمرتزقة والمندسين أن يحققوا مآربهم عندما يركبون موجات الحرية والحق والكرامة والنضال والتضحية والبناء والتطور والتعبد والتدين.
فمثلاً: عندما نقول للمسيحيين - مؤمنين ورجال دين ومفكرين ومسؤولين- أن يسوع المسيح أرادكم أن تتبعوه قبل أن تعبدوه. تجدهم يتضايقون من هذا القول لأنهم يعلمون أن كلمة تتبعوه فيها مسؤولية كبيرة قد تصل إلى الاستشهاد لتحقيق كل الأمور التي ذكرت قبل قليل، هم لا يريدون ذلك بل يريدون أن يحصدوا فوائد من حملهم لاسم المسيح وما لهذا الاسم من قيمة في قلوب الناس دون أن يدفعوا ثمن اقتناء هذا الاسم.
هذه قضية كبيرة فقد أشرت إليها لأعود للسيدة زينب لأذكر كيف تستحق كغيرها من هؤلاء العظماء أن نرى فيها المثل ونتعلم منها العمل وأنها هي أيضاً لم تعبد سيدها بل اتبعت خطاه وأعلنت جهادها في سبيل البناء مستعدة لدفع الفاتورة مهما كانت التكلفة.
قال الدكتور عصام كلمة بحق الرئيس الراحل حافظ الأسد وعظمته، وأنا أقول لا قيمة لتعظيمه أو تعظيم ابنه أو شعبه ما لم نكن جميعاً نجسد رؤاه الصالحة البناءة على كل صعيد لا بل أيضا يجب أن نزيد.
أيها الأحباء.. الناس عامة لا يحبون هذه اللغة لأن لها ثمن ولا يريدون أن يسيروا في هذا الطريق فيدفعوا ثمن الكرامة والحرية والإيمان والتدين والبناء والتطور...
السيدة زينب نحتفل بذكراها في الكنيسة لأنها دفعت الثمن.
فكل شخص يُعتبر أملاً يُصبح مَثَلاً عندما يدفع الثمن.
السبب الثالث الذي جعلني أدعوكم للكنيسة
هو أنني رأيت في السيدة زينب نموذجاً من نوع آخر للسيدة مريم العذراء وأردت أن يطلع على ذلك من حولي لأن في السيدة زينب والسيدة مريم قوة جعلتهما تسيران في طريق الحق المحفوف بالمخاطر المليء بالأشواك. سارتا خلف صليب الحقيقة لنصرة الحق فكان لهما عطر وعبير وجب على كل مسيحي ومسلم أن يتعطر بعطرهما ليفوح منه عبيرهما.
وأردت أيضاً أن يعلم الجميع أن مستقبلنا مرهون بأن نجعل أسرنا كأسرة زينب وأبناءنا كابن مريم،
وأن نجسد قولنا بأننا نحب بعضناً بعضاً بأن نتعلم كيف نحب من يحبه الذين نحبهم فإن أَحببتُ زينباً وهي تحب علياً وحسيناً ومحمداً فعليّ أن أحب هؤلاء،
وإن أَحببتُ مريماً وهي تحب يسوعاً وتلاميذاً له ورسلاً فعليّ أن أحب هؤلاء.
هذه هي حقيقة ومصداقية المحبة.
يجب أن نجسد قولنا بالمحبة لبعضنا بأن ننفتح على ثقافة بعضنا بكل صدق وجدية عبر البحث الحقيقي عن القيم الموجودة في ملفات أخي وتراثه وفكره.
كل الأنبياء والعظماء والقادة والملهمين كانت مصداقيتهم سر إتباع الناس لهم وتجسيد مبادئهم والانتصار لرسالاتهم.
السبب الرابع لهذه الدعوة
هو لنعلن وبصدق التقدير العظيم للسيدة زينب لما رأينا فيها من يسوع المسيح في مواقفها وصمودها وصرخة الحق في حنجرتها ونبرة التحدي في كلامها وسر قوة الإيمان عندها بصاحب السلطان الأوحد والنهائي إله الخلق كافة وسيد الكون والخليقة هذا الإيمان الذي جعلها لا تأبه لسلاطين هذا العالم كما كانت حال يسوع المسيح.
نعم أيها الأحباء قلت مرة وأكرر أن هذه المقارنات صعبٌ على كثيرين أن يتحسسوا ويتقبلوا ما فيها مما لا عهد لهم به،
فمثلاً إن قلنا أيضاً أن السيدة مريم عظيمة في طاعتها وإيمانها وكذلك السيدة زينب، ولكن نزيد إنصافاً لهذه الأخيرة، أن دورها وقوة تأثيرها كانا امتيازاً لمسيرتها
وهذا كان جوابي لإحدى السيدات اللواتي قلن لي : "شو جاب زينب لمريم". ولن أقول الكلمة التي قلتها لها لأنها قد تزعج حتى بعضاً من المسلمين.
العظمة كلمة لا يجوز أن نطلقها على أي كان وفي المجال الديني لا يجوز أن نطلقها إلا على من يقتربون من الإله في قيمهم وفكرهم ودورهم وتأثيرهم.
فالعظمة كلمة لا يجب أن تطلق إلا في حالاتٍ جدُ محددة عندما تتوفر عناصر معينة في شخصية هذا الإنسان أو ذاك.
العذراء مريم والسيدة زينب في الإيمان عظيمتان.
العذراء آمنت بالبشارة التي جاءتها من الملاك رغم أن ثمن ذلك كان الرجم. والسيدة زينب آمنت بأنها أعطيت من الله مهمة لتؤديها رغم صعوبة قضيتها وتحدياتها. فإذْ اقتصر دور السيدة العذراء على العناية بيسوع الطفل والوقوف إلى جانبه وإتباعه في خطواته إلى الصليب، فإن دور السيدة زينب كان في حمل الصليب متشبهة بموقف السيد المسيح من الكتبة والفريسيين وأعلى سلطة في زمنه.
فيسوع وصف هيرودس بالثعلب والكتبة والفريسيين بأولاد إبليس
والسيدة زينب واجهت السلطان وقرعته بأوصاف جريئة تناسب تحقيره لها وإهانته لإيمانها.
كلاهما لم يصمتا أمام الإهانة الموجهة للرسالة وإن تجاوزا في مرحلة ما إهانة شخصيهما.
ويعوزنا الوقت لو أردنا أن نفصل في هذا السياق وقد أفعل ذلك في وقت وزمان آخر.
أيها الأعزاء.. قال لي البعض: "إلى أين ستأخذنا يا قسيس"
قلت: أنا آخِذكم للقاء الآخر بجدية وصدق ومسؤولية.
أريد أن تُفتَح أقنية القلوب فلا نقول "نحن نحب الجميع" بل نقول "لنفتح قلوبنا وأفكارنا للآخرين" فكم بالحري لأخوتنا المسلمين.
لا بل قلت أيضاً بأني أحلم بزمن نتحدث فيه بأمور يرى بعض رجال الدين استحالة الحديث فيها.
أحلم بأن نصل إلى اليوم الذي نقول فيه "دعونا نترك المطلق الذي في أذهاننا لأنفسنا ونقدم قيم هذا المطلق ومعانيه وجوهره لبعضنا حتى نثير الشوق في نفوس بعضنا للتعرف على الأسباب التي جعلت هذا الأمر أو ذاك له صفة المطلق لدينا"
واسمحوا لي أن أعطي مثلاً عن ذلك. فمثلاً قضية نزول القرآن الكريم ولاهوت السيد المسيح هاتان قضيتان لهما طابع التسليم المطلق في أذهان المؤمنين، ولكن رغم ذلك أحلم أن نصل إلى اليوم الذي نبحث في كل ذلك.
وفي الختام أستأذن سيادة الرئيس بما سأقول:
تمنيت عليه أن نستخدم وسائل الإعلام لتحقيق بعض من الأهداف التي ذكرت عبر حوار إسلامي مسيحي وطني اسمه الحوار الديني السوري فهناك الحوار العربي الإسلامي المسيحي.
وأنا قصدت بهذه التسمية مقاصد معينة منها أن تكون البداية مع أهل البيت مع الإخوة والأخوات الذين يعيشون معاً ولهم اختبارات مهمة مع بعضهم البعض.
أنا اليوم في دعوتي لكم للكنيسة لنحتفل بذكرى ميلاد السيدة زينب أسير في طريق تحقيق هذا الحلم.
الطريق طويل أنا بدأت السير فيه معكم سائلاً المولى الإله الحي القادر والملهم والمحيي ما دمنا نحيا به أن يبارك فيما نؤسس له ويعيننا في هذا الطريق لنكشف سر وحدتنا كبشر آدميين وكمسلمين ومسيحيين على هذه الأرض الصغيرة في كون ملكوت الله العظيم.
محطتي الأولى معكم كانت مع "زينب ومريم"
والثانية مع "زينب ومسيانيتها"
والثالثة غداً مع "زينب وكنيستها".
فإلى اللقاء.